س : والله يا أخي إن هذا الحديث جليلٌ ومفيدٌ جدا لي .. ولا تعلم كم سيترك من أثارٍ في نفسي وفي علاقتي بالله تعالى منذ الآن وصاعدا بإذن الله .. ولكن يبقى سؤالٌ واحدٌ أخير .. لقد كنت قبل حديثك معي الآن – وللأسف – أفكر أحيانا بأنه ( مستحيل أن يعلم الله تفاصيل كل شيء في الكون ) .. بل هو يعلم الأشياء الرئيسية الكبيرة .. ويترك الصغيرة للملائكة يعلمونها ويتعاملون معها ثم يُخبروه بها !!
فهل هذا التفكير مني سوف أحاسب عليه أمام الله تعالى ..؟
ثم هل يمكن أن تفسر لي قيام بعض الملائكة ببعض وظائف المراقبة والتسجيل على الإنسان ما دام الله تعالى يعلم بكل شيء ؟
س : سامحك الله يا أخي العزيز .. وزادك علما وفهما إن شاء الله ..
فإن من عقيدة المُسلم الصحيحة : أن يؤمن بالله تعالى إلها قادرا مهيمنا عالما ومحيطا بكل شيء كما وضحتُ لك بالآيات السابقة وبكلامي .. فكان لزاما عليك الإيمان بتلك الحقائق بمجرد ذكرها في الكتاب والسنة ..
وسوف أخبرك بشيء ترُد به هذه الوساوس والأفكار عنك إذا جاءتك مرة أخرى .. هذا الشيء هو أن تفكر دوما في الكون الواسع الضخم من حولك .. وتفكر كيف يحفظه الله تعالى وكيف يتولى متابعته وسيره بإحكام شديد .. فلا ترى أي عيب أو زيغ في هذا الكون الفسيح .. حيث يقول الله تعالى : " إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا .. ولئن زالتا إن ( أي ما ) أمسكهما من أحدٍ من بعده " فاطر – 41 .. وهذا يدل على اعتماد الكون كله بما فيه على الله تعالى في تدبير جميع شئونه صغيرها وكبيرها .. من أصغر ألكترون يتحرك في الذرة .. إلى أكبر نجم يتحرك في الكون !!
فإذا جاءتك مثل هذه الوساوس مرةً أخرى .. فتذكر ما هو أكبر منها وهو ما ذكرته لك الآن .. فيهدأ قلبك .. ويقتنع عقلك ..
أما بالنسبة لما ذكرته من شبهة أن الله تعالى ترك فعل بعض الأعمال للملائكة .. ومنها مراقبة العباد وحفظهم وتسجيل أعمالهم عليهم ...إلخ .. فإليك الإجابة الشافية إن شاء الله تعالى في نقاط :
1-أولا : لا تقيس أفعال الله تعالى ولا قدراته بأفعالك وقدراتك .. فالله تعالى لا يشترك معنا إلا في الأسماء .. فقد أخبر مثلا عن نفسه بأنه (سميع) و (بصير) و (حي) .. والإنسان أيضا يمكن وصفه بالسمع والبصر والحياة .. ولكن شتان .. فالله تعالى يقول عن نفسه : " ليس كمثله شيء " الشورى – 11 .. وأقول لك هذا لكي لا تهلك فكريا وتضل بعقلك بسبب قياس قدرات الله تعالى بقدراتنا المحدودة .. فكم من مذهبٍ انحرف عن الطريق قديما وحديثا بسبب هذا القياس الفاسد ..
2-ثانيا : الله تعالى من اسمائه الحسنى اسم : (المَلِك) .. ومن مظاهر المُلك أن يجعل الملِك بينه وبين رعاياه درجات ووظائف .. وخصوصا إذا كان هذا الملك عظيم القدر .. فما بالك بالله تعالى وقدره وعظمته .. ولكي تفهم ما أقول فسوف أضرب لك مثالا بسيطا .. لو افترضنا أن مُدير المدرسة أراد أن يستدعي تلميذا إلى مكتبه .. أو أن يُبلِغه شيئا ما .. فهل يُعقل أن يذهب هذا المدير إلى التلميذ لهذا السبب ؟!! أم أنه هناك من هو تحت أمرته لفعل مثل هذه الأمور .. ومع ذلك فالله تعالى أخبرنا في القرآن في غير ما آية أو رسوله صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث بأنه قريب منا .. ينزل إلى الدنيا – نزولا يليق به مُنزها عن إنكار صفة النزول أو تشبيهها بغيرها - ليتقبل توبة التائبين .. وغيرها من النصوص الكثيرة التي تؤكد على قربه في وقت الدعاء والبلاء والجهاد ...الخ .. والذي نخرج منه بأن أول سبب لجعله بينه وبين تصريف شئون عباده ملائكةً هو : مقام المُلك والعظمة المطلقة ..
3-ثالثا : (شهادة الملائكة) .. فلقد أخبر الله تعالى عن الكفار والعصاة بأنهم سوف يُنكرون ما قاموا به من كفر ومعاصٍ في الدنيا يوم القيامة في الحساب أمام الله !! .. لذلك – ولأن من صفات الله تعالى وأسمائه (العدل) و (الحق) – فلقد أعد الله تعالى لهم شهودا من الملائكة .. وشهودا من أجسامهم وأنفسهم على ما عملوا .. وذلك لكي لا يكون لهم على الله حُجة .. ومعلوم أن الله يعلم كل شيء .. وبصير وسميع بما عملوا .. ولكنه – لكمال العدل – لا يرضى بديلا إلا أن تشهد الملائكة التي لا تكذب ومن أجسام الكافرين العصاة أنفسهم ..
4-رابعا وأخيرا : (أن يباهي الله تعالى بالإنسان الملائكة) !! .. نعم .. فلقد تعجبت الملائكة عند خلق الله تعالى للإنسان كما حكى ذلك الله فقال : " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة .. قالوا أتجعلُ فيها من يفسدُ فيها ويسفك الدماء .. ونحن نسبح بحمدك ونقدسُ لك .. قال إني أعلمُ مالا تعلمون " البقرة – 30 .. فالملائكة علمت أن هذا المخلوق (الحر الإرادة) سيكون به شرا حتما – وذلك لما رأوه من الجن بالفعل عند نزولهم للأرض قبل الإنسان - .. ومن هنا جاء تعجبهم من خلق الله تعالى لهذا الخلق .. ولم يروا به أي خير .. لذلك فقد جعل الله تعالى للملائكة الكثير من الوظائف والأحوال التي يراقبون فيها الإنسان – وخصوصا المسلم – ثم يصعدوا إليه ليخبروه بها – وهو أعلم - .. ولذلك لا تجد حديثا نبويا تكلم عن إخبار الملائكة أو أحد البشر لله تعالى عن شيء ما إلا وتجد فيه أمثال هذه العبارات : " فسألهم الله – وهو أعلم – " أو : " يا جبريل .. اذهب إلى محمد واسأله – وهو أعلم – ما يُبكيك ؟ " وهكذا .. ومن هنا ترى الملائكة أن الإنسان الضعيف المُحمل بالأعباء الجسدية والنفسية من نوم وأكل وسعي على الرزق والأهل والشهوة ووساوس الشيطان ...الخ .. ترى أنه وسط هذه الابتلاءات والمحن ، يذهب ليعبد الله فيُصلي .. أو يحج .. أو يتقي الله ما استطاع في حياته .. ومن هذا النوع وهذه الحكمة البليغة مِن الله تعالى لعباده فسوف أختم بهذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " تتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار .. ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر .. ثم يعرج (أي يصعد) الذين باتوا فيكم .. فيسألهم ربهم وهو اعلم بهم : كيف تركتم عبادي ؟.. فيقولون : تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون "